5/25/2007

السويس .. "رصاص" السمسمية





سفري إلى السويس في المرة الأخيرة يمثل لي شيئا مختلفا، فهى المرة الأولى التى أسافر فيها وحدي إلى السويس. هذه المرة لن اذهب مع أهلي إلى البحر - الذى اكرهه واخشاه كثيرا - هذه المرة اتجه إلى طريق الجناين أو طريق الأراضي الزراعية المجاورة لمدينة السويس.



مدينة السويس ليست كغيرها من مدن القناة، فهى ليست كالاسماعيلية ذات الشواطئ ومزارع المانجو، وليست ايضا كبورسعيد التى كوفئت على نضالها الطويل بالمنطقة الحرة. السويس نالت كل الوعود ولم تجن إلا الحسرة والمزيد من الصبر على أوضاعها المتدهورة، فالرئيس السادات وعد أهالي السويس بأن يصلي معهم صلاة العيد كل عام لكنه لم يف بوعده إلا مرة واحدة، ووعدها السادات ايضا ومن بعده مبارك بالتنمية وتحسين الأوضاع، لكنها ببساطة ليست شرم الشيخ مدينة القصور الرئاسية الهادئة التى لا يريد مبارك أن يفسدها لكي تضخ إليها الأموال كل يوم.



مدينة أقصى ضوضاء يمكن لأذنك أن تصطدم بها في ميدان الأربعين، وهى ضوضاء لا يمكن مقارنتها بأى حال من الأحوال بضوضاء ميدان التحرير أو رمسيس. الحياة في مدينة السويس تسير بهدوء يصدمك كقاهري، فسائق الميكروباص لا ينادي بصوت عالي ومستمر كما يحدث في القاهرة .. السائق وبشكل غريب يأخذ الأجرة من الراكب بعد نزوله من الميكروباص - مشهد لا يمكن أن يحدث في ميكروباص القاهرة - ما يفاجئك أكثر أن السائق على طريق الجناين يعرف تقريبا معظم الركاب الموجودين معه في السيارة، وبدأ يتحدث معهم بأسمائهم واحد تلو الأخر حتى وصل عندي فأدرك فورا أننى غريب عن السويس .. في الحقيقة هى ليست مشكلة أن تكون غريبا في السويس فهى بلد الغريب. أجمل المشاهد التى تمنيت أن اصورها في السويس كانت لسور مدرسة مكتوب عليها كلمات السمسمية كاملة ...



غني يا سمسمية
غني يا سمسمية
لرصاص البندقية
ولكل إيد قوية
حاضنة
زنودها المدافع
* * *
واللي وراها بيدافع
ووصي عبد الشافع
يضرب في
الطلقة مية
* * *
في الغيط وفي المعامل
بيأدي الواجب كامل
واديله
وردة هدية
* * *
في الجامعة وفي المدارس
لمجد بلاده حارس
من غدر
الصهيونية


المرور بأحياء السويس، وبقرى طريق الجناين يشبه شريط السينما الذى يعرض لك كل ما مرت به السويس من مآسي ودمار .. قرية عمران وخزان المياه الكبير الذى استهدفته المقاتلات الاسرائيلية في عام 1967 يبدو كشاهد على الدمار الذى تعرضت له هذه القرية أثناء الحرب. لا يمكنك أن تمر بآثار الدمار والخراب الذى أصاب السويس أثناء الحرب إلا وتتذكر صوت "حمام" وهو يغنى "يا بيوت السويس .. يا بيوت مدينتي .. استشهد تحتك وتعيشي أنتى " .. أغاني حمام ظلت ممنوعة في الاذاعة المصرية لأنه له اتجاهات يسارية .. الله يرحمك يا حمام .. الله يمسيكي بالخير يا سويس.



الساعة الآن اقتربت من السابعة مساءا، وهذا يعني أننى ضيعت أخر أتوبيسات شرق الدلتا العائدة إلى القاهرة، وعلىّ الآن أن اركب احدى ميكروباصات السويس القاهرة .. تبدو خطرة وكثيرا ما اسمع عن حوادثها، لكن لا مفر من العودة إلى القاهرة، ولا مجال للبقاء ولو لليلة واحدة في السويس. صعدت إلى الميكروباص، واخترت لي مقعدا يبدو مريحا، فالرحلة ستكون طويلة، وعلى أن استريح بعد ثماني ساعات متواصلة من الحركة في مدينة السويس وعلى أطرافها.



كل من ركب سيارة الميكروباص التى استقلها كان من السويس، ووحدي كنت من القاهرة .. معظمهم يحملون اسم الغريب، وغالبيتهم يحملون أسماء الأحياء التى يعيشون فيها كالسويسي والموشي - بكسر الياء - معظمهم كانوا من الشباب، ولأول مرة أشاهد أشخاص يشجعون فريقا أخر غير الزمالك والأهلى، حبهم الأول وعشقهم الدائم هو فريق السويس، يحفظون أسماء لاعبيه رغم خروجه من الدوري الممتاز، يتذكرون المرات التى هُزم فيها بمرارة حقيقية. مرارة الهزائم تذكرهم بمرارة المياه في صنابير السويس. في هذه اللحظة يشترك كل من في الميكروباص في شكوى جماعية من المياه التى يعتقدون أنها عملية قتل جماعية تعرضون لها كل يوم. الاقتراحات تتوالى من أول سائق الميكروباص حتى آخر كنبه؛ منهم من نصح بوضع قطن أو شاش ومنهم من وجد أن الفلتر هو الحل.لم يشغلني طوال الطريق إلا ذلك الرجل الذى جاوز الخامسة والسبعين من عمره الذى ظل يتحدث طوال الطريق مع جميع الركاب .. يحكي لهم ذكرياته، وأيام شبابه في السويس .. يستعير لهم حلا من ذاكرته لمواجهة مشكلة المياه .. "مجرد زير ونضع في قاعه رمال وزلط، هكذا كنا نفعل في الجيش" هكذا ايضا قالها ببساطة، ولم يتوقف عند هذا الحد حيث بدأ في إلقاء قفشاته المسلية فأضحك الجميع، حتى أنه كسر جدار الصمت المضروب دائما حولي ...